مقال جميل : السويسريون الثلاثة



أحمد أميري - في طريق العودة من رحلتي الأولى لبانكوك عاهدت نفسي ألا أرجع إليها، فالجو استوائي رطب، ورائحة الطعام منفرة، ومنظر الحشرات والزواحف وهي تقلى أمام المارة مقزز، والكلاب تسرح وتمرح في كل مكان.

لكنني في الصيف التالي كنت أمسح العرق من جبيني وأنا قاعد في عربة "توك توك" وهي تسير في شارع "سوكومفيت"، الأطول في العالم، فمن يلقى التعامل الراقي للتايلانديين مع الأجانب لا بد أن يعود إليهم، إضافة إلى انشغالهم بالعمل والكد بدلاً من اختراع طرق احتيالية للإيقاع بالسائحين أو استدراج "البات" من جيوبهم، كما يحصل في بلدان أخرى تنتشر فيها ثقافة التحايل والاستجداء بحجة الفقر.

وأذكر مرة اقتربت مني عجوز زبّالة، فوضعت يدي في جيب بنطلوني لأخرج لها القليل من الـ"بات"، لكنها نظفت الأرض من حولي ولم تنظر إلى وجهي. وتشعر في تايلاند أن الـ 63 مليون تايلاندي متفقون على الترحيب بالسائحين وخدمتهم وعدم مضايقتهم، ومجموع الأيام التي قضيتها في تايلاند خلال سفراتي الثلاث إليها تبلغ نحو 20 يوماً، لم تحصل لي سوى مشادة كلامية مع سائق تاكسي واحد، لكنني في دولة عربية واحدة كنت أدخل في أكثر من مشادة كلامية في اليوم الواحد.

 وهذا العام سافرت مع مجموعة من أفراد عائلتي إلى ثلاث دول أوروبية هي النمسا وألمانيا وسويسرا، ورغم أن سويسرا كانت الأغلى، ثم ألمانيا، فالنمسا، فإننا فضّلنا الدول الثلاث بالترتيب نفسه، وذلك بسبب مواقف فردية تجعل المرء، شاء أم أبى، يصدر حكمه النهائي. ففي ألمانيا لم نتعرض لموقف سلبي ولا إيجابي، ومن ثم فهي في رصيدنا كسائحين خرجت لا لها ولا عليها، بينما النمسا خسرت رصيدها لدينا بسبب موقف من صاحب مقهى في "زيلامسي"، إذ طلب بعضنا مشروبات ولم يطلب البقية شيئاً، فأمرهم صاحب المقهى بالمغادرة وهو يصرخ.

 أما سويسرا، البلد الأكثر تكلفة، فقد اتفقنا أنها الأفضل بسبب ثلاثة مواقف إيجابية من ثلاثة أشخاص فقط، الأول كان رجلاً في الخمسينيات من عمره شارك في ماراثون أجري على قمة "جان فروه" الأعلى في أوروبا، وكنا نحن نقف بعيداً ننتظر وصول القطار، فإذا بالرجل يقف أمام ولدي فجأة، ويمسح على رأسه ويخلع عنه الميدالية التي فاز بها ويقلّدها ولدي ويغادر سريعاً قبل أن يخطر ببالنا أن نشكره أو نأخذ صورة تذكارية معه. وفي اليوم نفسه، لم يحالفنا الحظ للحصول على مقعد في القطار بسبب الازدحام الشديد، فتخلّت سيدة عجوز سويسرية عن مقعدها لتقعد عليها زوجتي، وبقي ولدي الصغير يرفسها طوال مدة الرحلة التي استمرت لنحو ساعتين.

 وفي مكان آخر من القطار المكتظ، أصرّ رجل سويسري عجوز أن أقعد مكانه، ولم أفلح في ثنيه عن قراره بسبب إصراره وهو يقول "أنت سائح"، ووقف هو الآخر ساعتين وأنا جالس في مكانه أحاول إخفاء دموعي. إن كنا نريد تنويع مصادر دخل بلادنا بتشجيع ودعم القطاعات غير النفطية كالسياحة، فإننا نحتاج إلى أمثال السويسريين الثلاثة، لأن السائح في نهاية المطاف يتذكر الناس وليس الأسعار أو الأبنية، وشخص واحد يمكن أن يصنع الفرق.  
 
 للمزيد من المقالات الخاصة .. اضغط هنا

تابع الموقع على الفيسبوك: